الفكرالإسلامي

 

 

العمل وقيمته بالنسبة للفرد والمجتمع

 

بقلم:  د/ عبد المعبود عمارة

 

 

 

 

قال تعالى ﴿وَقُلِ اعْمَلُوْا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْـمُؤْمِنُونَ (سورة التوبة: 105).

     إن نهضة الأمم والشعوب ورقيها وسيادتها وسعادتها تتوقف على تقدمها في مجال العلم والعمل، وبهما تبني الأمم أمجادها فلا تبنى الأمجاد على البطالة والجهل والفقر والمرض، ورحم الله من قال:

بالعلم والمال يبني الناس ملكهم

لم يبـن ملك على جهـل وإقـلال

     وبالعمل والاحتراف المتقن تتبوأ الشعوب الصدارة بين الأمم، والله سبحانه وتعالى يحب اليد التي تعمل وتجتهد لتقدم الخير لنفسها ووطنها ودينها، والمؤمن المحترف يحبه الله ورسوله جزاء ما قدم، ومن أحبه الله ورسوله هداه الله واجتباه وحفظه ووقاه وجعله من أوليائه وأدخله في رحمته فيسعد في الدنيا والآخرة.

     وقد دعا الإسلام إلى العمل والاحتراف والاشتغال بالعلوم النافعة؛ وإن أطيب مال وأحلَّ كسب ما كان من عمل الإنسان.

     قال صلى الله عليه وسلم : «ما أكل أحد طعاماً قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده».

العمل قوة وعزة للمؤمن:

     المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، والعمل الشريف يطهر المجتمع من شر البطالة، ويجعل المؤمن قوياً بقوة المجتمع عزيزًا غنياً معتمدًا على نفسه في توفير وسائل الحياة والتقدم والرفاهية، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكره أن يكون المؤمن عالةً على غيره في توفير سبل العيش، وقال صلى الله عليه وسلم لمن تفرغ للعبادة وترك العمل، «إن أخاك أعبد منك»، وكان هذا المتعبد يعتمد في حياته على سعي وعمل أخيه، والعمل شرف وعبادة وهو خير للإنسان من أن يسأل الناس لما فيه من ذل السؤال الذي يفقد الإنسان عزته وكرامته قال تعالى: ﴿وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ ولِلْمُؤْمِنِيْنْ (سورة المنافقون:8).

العمل منهج الأنبياء والصالحين:

     قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالحاً (سورة المؤمنون: 51).

     فسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كان يعمل ويأكل من كسب يده قال صلى الله عليه وسلم: «ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم، قيل يا رسول الله وأنت؟ قال نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة».

     وقد احترف سيدنا محمد رعاية الغنم بمكة صغيرًا قبل أن يشتغل بالتجارة، وقد استفاد صلى الله عليه وسلم من هذه الحرفة كثيرًا من صفات الخير كالتواضع وحسن سياسة الرعية والأمانة والصبر وغير ذلك من الفضائل واكتسب من عمله بالتجارة، الصدق والأمانة وحسن المعاملة. وكان ملقباً بالصادق الأمين، ولما عرف عنه ذلك خطبته السيدة خديجة رضي الله عنها زوجاً لها، وعمل صلى الله عليه وسلم في مالها، وكان لصدقه وأمانته الأثر العظيم في نشر الدعوة الإسلامية وقال له الناس «ماجربنا عليك كذباً قط» فأنت الصادق الأمين.

     وقد عمل سيدنا موسى برعي الغنم قال تعالى: ﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسىٰ * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرىٰ﴾ (سورة طه: الآيتان 17، 18) وقد عمل سيدنا موسى لدى سيدنا شعيب عليهما السلام ثماني حجج في رعي غنمه واختاره زوجاً لإحدى بنتيه لأمانته وصدقه ﴿قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْت الْقَوِيُّ الأَمِينُ (سورة القصص: 26).

     ومن الأنبياء من احترف الحدادة أو النجارة، وكان سيدنا أبوبكر رضي الله عنه يعمل بالتجارة، وكذلك كان سيدنا عمر رضي الله عنه الذي سجل له التاريخ قوله المشهور: «لايقعد أحدكم عن طلب الرزق وقد علم أن السماء لاتمطر ذهباً ولافضة».

     ومن الذنوب مالا يكفر لا بصومٍ ولا بصلاةٍ وإنما يكفره السعي على الرزق، فالرجل يثاب على سعيه حتى اللقمة التي يضعها في فم زوجته أو أولاده يكون له فيها أجر، وكل زرع يزرعه الإنسان فيأكل منه إنسان أو حيوان أو طير فإن له به أجرًا.

     وكانت دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الزراعة والعمل حتى ولو قامت القيامة، وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة واستطاع أن يزرعها فليزرعها» والعمل الشريف يزكي النفس ويكفي المؤمن ذل السؤال، ويعلم الإنسان العمل لخدمة الغير والعمل بروح الفريق والاشتراك في عجلة الحياة وخدمة المجتمع، ويذهب عنه حب الذات، ويقضي على الكثير من الأمراض النفسية؛ لأن الجهاز العصبي للإنسان ينشغل بالعمل المفيد ويترك هواجس النفس ونوازع الشر والاكتئاب وينصرف الإنسان إلى المفيد من الأعمال، الذي يشرح الصدر وينزل على النفس السكينة.

ماذا يجب علينا تجاه الوطن؟

     إن الوطن هو ما على أرضه نشأنا ومن خيره تغذينا، ومن ماء نيله شربنا، ومن هوائه تنفسنا، فهو الحياة لنا ولأبنائنا وأحفادنا القادمة. وحب الوطن من حب الله. ويجب علينا أن نحب وطننا مصر، التي ذكرها الله تعالى في القرآن الكريم في مواضع عدةٍ، وجعل الأمن والأمان لمن يدخلها قال تعالى: ﴿ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمنِيْنَ (سورة يوسف الآية 99). ومصر بها خير أجناد الأرض الذين أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم بهم خيرًا. وقد عاش وهاجر ودفن في أرض مصرالكثير من آل البيت رضي الله عنهم أجمعين.

     من أجل هذا وغيره يجب علينا بذلك كل مرتخص وغالٍ في سبيل نهضة مصر ورفعة شأنها علمياً واقتصادياً وفي كل نواحي الحياة وذلك بالوسائل التالية:

     أولاً: التسلح بالعلم النافع والتقني والتكنولوجي في مجالات الزراعة والهندسة والطب والأبحاث العلمية: والنهضة العلمية هي صمام الأمان لكل تقدم، والعلماء هم أكثر الناس خشيةً قال تعالى: ﴿إنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ (سورة فاطر الآية 28).

     ورحم الله القائل:

فتعلموا فالعلم مفتاح العلا

لم يبــق شيئًا للسعادة مغلقا

ثم استمدوا منه كل قواكم

إن القوي بكل أرض يُتَّقَىٰ

     وطالب العلم يجب أن يتحلى بالصبر والذكاء، والاجتهاد ومصاحبة العلماء والأساتذة وطاعتهم، وأن يعطي وقتاً كافيًا لدراسة العلم، ولنا درس كبير في قصة سيدنا موسىٰ والخضر عليهما السلام والتي وردت في سورة الكهف حيث قال نبي الله موسى لمعلمه الخضر وهو ولي من أولياء الله: ﴿سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ صَابِرًا وَلاَ أَعْصي لَكَ أَمْرًا (سورة الكهف الآية 69).

     ثانياً: العمل المتقن سواء كان عملاً يدويًا أو ذهنيًا لقوله تعالى: ﴿لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ (سورة يس الآية 35). وإتقان العمل يسبب محبة الله تعالى لتلك الأيادى، منها يد الفلاح في حقله، والعامل في مصنعه، والعالم في محرابه، والمعلم في معهده، والطبيب في عيادته، وغيرهم من رجال يسهرون على راحتنا، وهؤلاء لهم ثواب عظيم؛ لأن «من بات كالّاً من عمل يده بات مغفورًا له».

     إن إيقاف عجلة العمل والإنتاج في المصانع ومواقع الإنتاج ودور العلم، وقطع الطرق وتعطيل وسائل النقل والمواصلات والاعتداء على مرافق الدولة بأي وسيلةٍ من وسائل التخريب، كل هذا يدخل في الفساد في الأرض، وهو من أكبر الكبائر؛ ذلك لأنه يؤثر على حياة الناس تأثيرًا سيئًا ويؤدي إلى ضعف الاقتصاد القومي وارتفاع الأسعار وعجز الموازنة، وهو يغضب الله تعالى الذي حملنا أمانة إعمار الأرض قال تعالى: ﴿اِنَّا عَرَضْنَا الْاَمَانَةَ عَلَی السَّمٰوٰتِ وَ الْاَرْضِ وَ الْجِبَالِ فَاَبَينَ اَنْ يحْمِلْنَهَا وَ اَشْفَقْنَ مِنْهَا وَ حَمَلَهَا الْاِنْسَانُ اِنَّه كَانَ ظَلُوْمًا جَهُوْلًا (سورة الأحزاب، الآية72).

     والشيء الوحيد الذي يحقق المطالب الفئوية إنما هو زيادة الإنتاج، وتصدير ما يزيد على حاجتنا وتوفير العملة الأجنبية لخدمة الاقتصاد القومي والتوسع في الزراعة والصناعة والتعليم والصحة وكل وسائل خدمات المجتمع.

ثالثاً: التسلح بسلاح التقوى:

     والتقوى هي تقديم الأعمال بأمانة وإتقان العمل بجد واجتهاد، والصدق، ومنع أي أذى قد يصيب الآلة التي أعمل عليها وحمايتها من التلف والضياع وصيانتها دوريًا.

     وقد اقترن العمل بالتقوى في القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّنْ ذَكَرٍ اَوْ اُنْثٰی وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيٰوةً طَيبَةً وَ لَنَجْزِينَّهُمْ اَجْرَهُمْ بِاَحْسَنِ مَا كَانُوْا يَعْمَلُوْنَ (سورة النحل الآية 97) وقال تعالى: ﴿اِنَّ الَّذِينَ اٰمَنُوْا وَ عَمِلُوا الصّٰلِحٰتِ اِنَّا لَا نُضِيْعُ اَجْرَ مَنْ اَحْسَنَ عَمَلًا (سورة الكهف الآية30)

     وأوضح القرآن الكريم الفرق بين من يحسن ويتقي ويصلح وبين من أساء إلى دينه و وطنه وأهله  قال تعالى: ﴿اَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ اٰمَنُوْا وَ عَمِلُوا الصّٰلِحٰتِ كَالْمُفْسِدِيْنَ فِی الْاَرْضِ اَمْ نَجْعَلُ الْـمُتَّقِيْنَ كَالْفُجَّارِ (سورة ص، الآية28) وقوله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوْا لِقَآءَ رَبِّه فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَّ لَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّه اَحَدًا﴾ (سورة الكهف، الآية 110).

رابعاً: المشاركة في أعمال الخير:

     مثل محو الأمية والقضاء على الجهل، والمشاركة في الأعمال التطوعية ومساعدة المحتاجين والضعفاء، وتبصير الناس بواجباتهم تجاه الوطن من الحُب ونبذ العُنف وعدم الاستماع إلى الشائعات أو ترديدها، والمشاركة في نظافة البيئة والتوعية الصحية والقضاء على الحشرات الضارة، وحفظ البيئة من التلوث والقضاء على الذُباب والحشرات التي تنقل العدوى وتورث المرض القاتل مثل الفيروسات الكبدية والإيدز والبلهارسيا وغيرها، قال تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوْا عَلَی الْبِرِّ وَ التَّقْوٰی وَ لَا تَعَاوَنُوْا عَلَی الْاِثْمِ وَ الْعُدْوَانِ وَ اتَّقُوا اللهَ اِنَّ اللهَ شَدِيْدُ الْعِقَابِ (سورة المائدة، الآية 2) ومما يجب فعله أن يحب المرء أخاه ويقدم له كل ما يستطيع من الخير، والإيثار والتعاون، لقوله تعالى: ﴿وَ يُؤْثِرُوْنَ عَلٰی اَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَ مَنْ يُّوْقَ شُحَّ نَفْسِه فَاُولٰـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُوْنَ﴾ (سورة الحشر الآية 9).

     ومن الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه.

     وعلى الجميع أن ينتصر للحق مهما كان مُرًا، والعدل بين الناس مهما كانت عقيدتهم وأن يحترم بعضنا بعضا لأننا أبناء وطن واحد، الكل يسعد لسعادته ويشقى إن أصابه أي سوء والعياذ بالله، ويجب عدم التجمهر وعدم الإتلاف والتعرض لدور العبادة؛ لأن ذلك يغضب الله ورسوله، وليس من الدين في شيء وليسع كل منا وخاصة الشباب إلى الجد والعمل ومحاربة الفقر والبطالة وأن يحترف كل واحد حرفة تُغنيه عن ذُل السؤال؛ ذلك لأن الشباب مع الفراغ والبطالة قد يسئ إلى المجتمع، ولذا يجب توجيه الشباب إلى ما يفيد في بناء المجتمع مثل تعمير الصحراء وسيناء الحبيبة وإقامة مجتمعات حديثة تنموية وعلى الشباب أن يتسلح بالعلوم النافعة ويترك الجدال ويسهم في منع التخريب وتوقف العمل وتعطيل المصالح، ويبصر من يقوم بذلك أنه مخالف للدين.

     وعلى أفراد المجتمع أن يتسلحوا بالتقوى في كل أعمالهم وأن الله يرانا ويقدر أعمالنا إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر، وعلى المؤمن أن يشارك في أعمال الخير وإحقاق الحق ونصرة المظلوم قال تعالى:﴿مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلٰئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (سورة غافر، الآية 40).

     رعى الله مصرنا الغالية ووفق رجالها بأن يفتدوها بكل مرتخص وغال وثمين، وأن يرحم الله شهداءها الأبرار وأن يجعل كل قطرة من دمائهم تمطر سحائب رحمة وبركة على ذويهم وأن يجعل الله سبحانه وتعالى تلك الدماء ضوءًا ينير الطريق لأبناء هذا الوطن ويرشدنا إلى الخير والحُب والإنتاج والعمل إنه سميع مجيب الدعاء.

 

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم  ديوبند ، محرم – صفر 1434 هـ = نوفمبر ، ديسمبر 2012م – يناير 2013م ، العدد : 1-2 ، السنة : 37